أقنع نفسه أنه قد تخلص أخيرا من شبح الحب الأول و أنه قد وجدها ، غاص في أعماق عينيها و سافر معهما ، أحس أنه لا يمكن أن تفهمه أخرى مثلما فهمته هي ، وجد فيها ما كان يبحث عنه فعظّم من
مميزاتها و تغاضى عن عيوبها ، جعل منها الصورة التي كان يتمناها في السابق و هيئها لتكون مطابقة لها ...و فرح كثيرا حينما بادلته المشاعر و انصاعت لعاطفتها ، و تغاضت عن كل متطلباتها و أحلامها و إن كان يشبع منها الكثير ، و تناست ذكرى لطالما كانت تطاردها ......
و لأنها أحبته بصدق و كانت متمسكة به فقد تغاضت أيضا عن صورة حبيبته الأولى التي وجدتها في درج مكتبه مع أشيائه الثمينة و الغالية و بعض الرسائل التي تحكي قصة حبهما كاملة ، التزمت الصمت و لم تشأ الحديث في الموضوع أو معاتبته ربما خشية أن توقظ الحنين بداخله و تذكرت حين خيرها بين ذكرى خطيبها المتوفى و بينه ، و أجبرها على قطع أي حبل تواصل بينها و بين الماضي ...
و رغم ذلك فقد بقي في قلبها وفاء لمن ضحى بحياته من أجل ألا تفقد شرفها و تبقى الفتاة الشريفة العفيفة .....
أما هو فقد ظل فتيل من ذلك الحب يشتعل في كل مرة ينزوي فيها عن البشر و يتخذ الوحدة ملاذا له ، و كم حاول البعد عن هذا الإحساس و إقناع نفسه أن ذلك الحب لم يعد موجود ..
هكذا كانا يعيشا ، قصة حب كبيرة جمعتهما انتهت بعد عدة صراعات بالاتفاق و إن كان لكل منهما حياة منعزلة عن الآخر ، قد يأويان إليها عندما تعصف بهما رياح الخلافات ....
و لكونها امرأة و تحاول دائما تجنب إحساس الخيانة فقد عملت جاهدة على نزع أي ذرة حب في
قلبها اتجاه خطيبها الأول حتى كادت تنساه و لم تبق تكن له سوى مشاعر الامتنان ، و إن كانت
لا تستطيع أن تمحي من ذاكرتها تفاصيل ذلك الحادث الأليم الذي أودى بحياته ....
................
و احتفالا بعيد زواجهما الأول خرجا في سهرة رومانسية دافئة رغم برودة الجو و نزول أمطار غزيرة ، كانت ليلة شاعرية بشموع مضاءة تنير ظلمة القلوب ..
كانت هي في أبهى حللها و كأنها أميرة في يوم تتويجها و كان هو الفارس الذي تنتظره ليعلنها اليوم أيضا أميرة لقلبه و ملكة مشاعره ، بداية السهرة كانت جميلة تعاهدت فيها العيون على الوفاء و انصاعت القلوب
إليها ..
و بعد وقت قصير من وصولهما يلمحها ، إنها هنا مرة أخرى و لم ترحل بعد، توقع أي شيء إلاّ أن يلقاها في هذا اليوم بعد كل هاته السنين ، لم يستطع أن يزيح نظره عنها أو أن يرى غيرها تسمر في كرسيه و ركز نظره دون حراك ، كيف لا و هي أول من أحب ، تذكر أول نظرة ، أول رجفة و أول لقاء ..كان يظن أن لا فراق بعده ...و سافر بذكرياته دون أن يفكر في العودة ، و دون أن يفكر فيمن تجلس بجانبه ....
تلك المرأة التي ضحت منذ البداية كي تستمر حياتهما و تكون ناجحة، تلك المرأة التي كانت تتغاضى في كل مرة يناديها بغير اسمها دون أن ينتبه لذلك ...
تلك المرأة التي أجبرها على أن تدفن بل و تنزع من قلبها مجرد مشاعر وفاء و امتنان لرجل ضحى بحياته كي تعيش شريفة و قدمها له امرأة كاملة نقية من أي ذنب أو شبهة أو عار يلازمها حياتها كلها ، حتى أنه ولّد بداخلها مشاعر تأنيب الضمير ...
فلماذا إذن يُحل لنفسه ما يحرمه عليها ؟ لماذا يعيش على وقع ذلك الحب رغم أنه فاشل و يحيي ذكرى امرأة لم تختره و لم تف له و فضلت أشياء أخرى هي أكثر أهمية في نظرها ، و يطلب منها هي أن تنسى و تعيش دون ذاكرة و دون ماض... فلا حاضر و لا مستقبل دون ماض ...
في الوقت الذي تطرح على نفسها كل هذه التساؤلات كان هو لا يزال في عالم آخر ناسيا سبب
وجودهما هنا و لم يفق من رحلته مع حبيبة الماضي حتى جاء رجل على قدر كبير من الوسامة و الأناقة ، جلس بجانبها بعدما طبع قبلة على خدها ....يبدو أنه زوجها ...
هنا فقط يتذكر أن له زوجة تجلس بجانبه و لكنه لم يعد يحس بوجودها بمجرد أن دخلا باب المطعم ، لم
يثن على جمالها في هذا اليوم الخاص و المميز، أو على ذوقها الرفيع في اختيار فستانها الأنيق ... و
في اختيار هذا المطعم الفاخر ..
و استدار بغية تدارك الموقف ليجد الكرسي فارغ و لا أحد هنا ، قام كالمجنون و خرج يجريدون أن يلتفت وراءه ، خرج من باب المطعم ليجد ظلمة حالكة و أمطار غزيرة ، ظل يبحث عنها مركزانظره على سيارات الأجرة علها كانت تستقل إحداها ، دون أن يجدها ..و عندما يأس من إيجادها استدار كي يعود إلى الداخل لإحضار مفاتيح سيارته و هاتفه النقال حتى يتصل بها ...
و هنا يجدها ..كانت ملتصقة بالحائط و كأنها تحتمي به ، تبكي كالطفل الصغير الضائع الذي فقد والدته ، جرى إليها بسرعة و أخذها بين ذراعيه معتذرا في حين ظلت صامتة ...
....................
فكيف تكون السعادة أمامنا و ندير لها ظهرنا ..فقد لا تتطلب منا هاته السعادة سوى بعض من التضحيات و قليل من التنازلات و الكثير، الكثير من الصدق فهذا منطق لا تفهمه سوى النساء....