أيدي ...و دماء !
مرسل: 17 مارس 2009, 7:21 pm
أمام مسجد كبير .... زحام و كلام كثير ... أصوات تحية فلان لفلان ..البعض يسارع لركوب سيارته لينطلق قبل الزحام ...هذا الرجل يصيح مناديا ابنه بغضب كي لا يتلكأ ويسارع بارتداء حذائه .... و الآخر ينهر المارة عن العبور أمام سيارته بكل هذا البطء و التكاسل .....إنه التدافع بعد أداء الصلاة للحاق بكل شيء و بأي شيء !
و هناك ..... على مقربة من باب المسجد ...جلس وحيدا .. ذليلا منكسرا .. و قد طأطأ رأسه كثيرا .. و تلألأت الدموع غزيرة في عينيه منذرة بفيضان عنيف يوشك على الانطلاق مغرقا هذا الوجه الشاب بكل سوائل جسمه الحبيسة ... التي اجتمعت لتثور من خلال نبع عينيه !
إنه شاب في مقتبل العمر ملامحه الصغيرة تمتليء بالحزن و الأسى ... و قد بدا عليه آثار صراعه مع نفسه قبل أن يمد يده المرتجفة مبسوطة أمامه و يقول بصوت باكٍ : " أعطنا .... ممّا .... أعطاكم الله ! " ثم يغرق في بكاء يمزق كل القلوب و يشيح بوجهه عن النظرات المتعجبة و المتسائلة و المتفحصة لثيابه النتي لا تبدو عليها آثار الفقر و الحاجة أبدا ً !
أسرعت إليه سيدة .. في عمر أمّه : " مابك يا ولدي؟ هل حدث مكروه لك ؟ كيف أستطيع مساعدتك ؟ أرجوك توقف عن هذا البكاء المر ... دعني أساعدك ! "
و بعد الحاحها .... ووسط متابعات المارة الذين اشرأبت أعناقهم لسماع قصته ..قال " فقدت كل أهلي ... و لم يبق لي إلا أمي ... حبيبتي .. و هي الآن تعاني مرضا خطيرا جدا ... و أنا لست سوى طالب في الجامعة ... لا أملك من المال ما يكفي لشراء الدواء الباهظ الثمن .... فما بالك بثمن العملية ؟ آه ...يا إلهي ... لا أريد أن أفقدها .... لا اااااا " و تعالى صوت بكاؤه ..فأسرع الكثيرون لتهدئته و عرض أنواع المساعدة .... فقدمت اليه السيدة التي بادرت بسؤاله ..خمسين جنيها ، بينما تبرع أحد المتجمهرين حوله ببسط منديل قماشيّ ..مرّره بين الناس ليلقوا فيه من المال كلٌ قدر استطاعته ! فتجمع في المنديل ما لا يقل عن مئة من الجنيهات أو يزيد !
و بمرور الوقت كان المبلغ يزداد أكثر فأكثر ...إلى أن تقدم هو ... إنه شاب رثّ الثياب ... حزين الملامح ...كان يجر قدمه جراً كي لا يكتمل تمزق مابقي له من شبه الحذاء الذي يرتديه ... كان يمسك بقوة في يده شيئا ما .... أخذ يبسط يده ببطء لتعلن عنا تقبض عليه ... لم يكن سوى ورقة من فئة الخمس جنيهات .. نظر إليها النظرة الأخيرة ثم ... وضعها بحنان غريب في منديل جمع التبرعات ذاك ... ثم جعل ينظر إلى عيني الشاب الباكي حتى خُيّل الى الأخير أنه يخترق روحه بهذه النظرات ... و قال له مواسيا " هذا كل ما أملك ... أظنك أحوج إليه منّي ....فأنا أستطيع أن أصبر أياما ...أعيش فيها على الخبز و الماء .. لكن والدتك لن تستطيع الصمود بلا علاج .." ثم بدأ يتراجع مبتعدا بنفس الخطوات الثقيلة الدامية !
مرّت بالشاب السائل ..لحظات من الذهول .. مشاعر متصارعة من الضيق و الحزن و الدهشة و الغضب و كثير ممّا جعل الدموع تنزف من عينيه بسخونة حارقة ... بل لقد اقترب صوت بكاؤه من الصراخ ... الى أن اقترب منه الشاب - الذي كان يمسك بمنديلٍ امتلأ عن آخره بما لذ و طاب من فئات نقدية ورقية و معدنية – قائلا له : " هيا يا محسن ... فلنكتفي بهذا القدر .. لدينا الآن ما يزيد عمّا كنا نريد ... هلم بنا كي لا نتأخر عن الحفل و قد جمعنا ما يكفي لشراء الدعوات و تمضية سهرة ممتعة !"
ينظر محسن باحتقار شديد إلى جاسر الذي يكمل كلامه غير عابئاً بنظرة محسن اليه : " يالك من ممثل بارع ! قد كدتُ أصدقك يارجل ! يبدو أننا سنعيد هذه الخطة مرارا و تكرارا "
لكن محسن قد فقد كل رغبة في المتابعة .... أيا كانت ، و ينهض من مكانه و الدموع لا زالت تنهمر بكل طاقتها على وجهه بل على قلبه و روحه متجها الى المسجد بنفس يملؤها الندم و تتوق الى التوبة بينما يبتسم جاسر هازئا ... و يسارع الخطى في الاتجاه المعاكس محكما قبضته على المال ....
و فجأة .... و دوِِن سابق انذار ..... يسمع الجميع دويّ ارتطام عنيف .... يعقبه تناثر لدماء جاسر في كل مكان ... مختلطة بأوراق نقدية ... قد باع نفسه مرارا لها... قبل أن يطير جسده المصدوم عاليا .... و يستقر على بعد أمتار من مسجدٍ .... كم شكى هجره و أمثاله له ...