" هذا و تواصلُ القواتُ الاسرائيليةُ_ لليوم الرابع على التوالي_ قصفَها العشوائيَّ؛ عل مدينةِ غزة المحاصرةِ، فلا تفرّقُ القذائفُ بين طفلٍ وشاب، أو بين رجلٍ و امرأة. الكلُّ سقطَ مغرقًا في دمائِه. اليومَ ترتوي الأرضُ الطاهرةُ بسيلٍ من الدماء الزكيّة لشهدائنا في غزة. هناك عدة بيوتٍ هُدّمت و سُوّيت بالتراب. سيّاراتُ الإسعافِ تجدُ صعوبةً بالغةً في الوصول إلى المواطنين. الإحصائيات الأوليّة تقول أن عددَ الشهداءِ وصلَ إلى مائةِ شهيدٍ؛ ثلاثون منهم من الأطفال.
إلى متى ستستمر هذه الهجمات البشعة؟
و إلى متى يظل الرد العربي غائبا ؟ ..
هذا ما ستجيب عنه الأيّام القادمة .
(عصام الكامل – غزة – فلسطين الصامدة )
انتهي عصام من إلقاءِ بيانِه إلى قناة " .." الفضائية، ثم تنفّس الصعداء ... أشارَ للمصوّر أن عليهما أن يستريحا قليلا؛ فلم يناما من الأمس؛ من جرّاءِ وحشيّةِ القصفِ الصِّهيَوني، وهو يشعرُ الآن بإرهاق شديد، ساهمتْ فيه موجةُ الحر التي لفحتهما، متزامنةً مع لهيبِ الحرائقِ المشتعلةِ هنا وهناك، تصاحبُها أصواتٌ من الصراخِ و العويل... لا شكَّ أنها صرخاتُ أمِّ ثكلي، أو أبٍ مكلومٍ، أو أبناءٍ سيُكتبُ لهم اليُتمُ. امتزجَ كلُّ ذلك فصنعَ لوحةً قاتمةً، رسَمَها رسّامٌ قد بلغ به الاكتئابُ و اليأس محلّه.
غرقَ في خواطِرِه تلكَ، ثم تنبّهَ على صوتِ زميلِه المصوّرِ، و هو يقولُ :
" يالِهذا القميصِ اللعين ..!"
نظرَ إليه عصام وقال :
" أي قميص يا جاسر ؟"
قال وهو يتأفف :
" هذا الذي نلبسُه أنا و أنت و كلُّ الصحفيين هنا، القميصُ الواقي من الرَّصاص، المكتوبُ عليه بخط واضح"press" ، إنه يشعرُني أني داخل آتون مشتعلٍ، ثم هو يشعرُني بالنذالة، هل كلُّ أهالي غزةَ يلبسونَ مثلَه؟؟ "
ثم أردفَ في حنق :
" يا لِهذا الهوان ! "
صمتَ عصام و لم يجبه؛ ربما هو الإرهاقُ الشديد ... ربما هو عدمُ رغبتِه في الدخولِ معه في جدال في ظل هذه الظروف، ربما فيما بعد و ليس الآن، سيعودان إلى بلدهما، سيجلسان في بيتِيهما في راحةٍ، و أمنٍ، و سلامٍ، ستصنعُ لهما زوجتُه الطعامَ، فيأكلونَه وفيرًا، شهيًا، لذيذًا، ثم يعقبونَه بتناول المشروبِ الساخنِ اللذيذ في شرفة المنزل؛ المطلّةِ على الحديقةِ الغنّاءِ ...حينَها، و حينَها فقط سيستمتعان بالنقاش في هذه المسألة، سيتجادلان كثيرًا ولا بأسَ، ولا مانع من أن ترتفعُ أصواتهما ... و لكن جدالهما هذا سيخفتُ حين تأتي الزوجةُ الحبيبةُ بأطباقِ الفاكهة ... و حينها لا صوتَ يعلو فوق صوتِ المعدة، سننتهي يا جاسر من الطعام، ثم يصيبُنا الوخم، و نُرجئ النقاشَ ليوم آخر، ... أما الآن فلا مجال ولا كلام ..
غرقَ في خواطرِه مرةً أخرى، ولم يفقْ إلا على صوتِ زميلِه يقولُ متأثرًا:
" الطفلة المسكينة.."
لم يدر عصام عمّن يتحدّث، فالتفتَ، فإذا بمشهدٍ أدمَي فؤادَه، وأ شعرَه بوخزٍ في ضميرِه ، لم يحتج معه إلى معرفةِ مصدرِه ! ، نظرَ إلى الطفلة التي يقصدُها جاسر .. و تأملَها ...
صغيرةً كانتْ، هشّةً كانتْ، فقيرةً_كما تشي ملابسُها المتواضعةُ_ كانتْ، حائرةً كانتْ، وحيدةً كانتْ، ضعيفةً كانتْ ... و ..
و كانتْ عند حطامِ ذاك المنزلِ، الذي امتزجَ في لحظةٍ واحدةٍ بالأرض، كأمٍّ احتضنتِ ابنَها الغائبَ في شوقٍ، كانتْ الصغيرةُ كما يبدو، بعيدةً عن بيتها وقت القصفِ، تلعبُ مع أقرانها في الشارعِ تمارس شيئا من الطفولة ! ، و يبدو أن عائلتَها قد ماتوا جميعا!.
" أليسوا هم أفراد العائلة الذين جاءتنا أنباء بوفاتهم اليوم يا جاسر ؟.. "
رد جاسر،فقال متصعّبا :
" نعم يا عصام، تخيّل؛ أب و أم و خمسة أبناء، في لحظة واحدة !!.."
عصام : سبحان الله، إنا لله و إنا إليه راجعون ،ولكن ماذا عن هذه الطفلةِ الصغيرة ؟
جاسر : لا أدري، هلمّ بنا نتقصّى الأمر.
ثم غلبته حاسّته الصحفية، فأنبأته أن لِهذِه الطفلةِ قصةً، فأشعلَ الكاميرا، و التقطَ صورا سريعةً للحطامِ، انتقلتْ حماستُه إلى عصام فأمسكَ الميكروفون؛ ليسجّل حديثا لأرشيف القناة، تعرضُه في وقتٍ لاحقٍ ، ثم قال _مُرْغِمًا نفسه على التحدّث بلهجة حيادية، لم تزل تصيبه بالحزن، و .. الذلّة ، ... لكنّها الأوامر !! _.
" قامت القوّاتُ الإسرائيليةُ، بقصف هذا المنزل المكوّنِ من عدّةِ طوابقَ، ليتحوّل في لحظاتٍ إلى هباءٍ منثور، قد اختلطتْ فيه الدماءُ و الأشلاءُ، مع الصخورِ و الرمالِ، و هاهي طفلةٌ صغيرةٌ، يبدو أنَّ عليها أن تواجهَ ذلّ اليتمِ، و الوحدةِ باقى حياتها، تقفُ عند ذاكَ الحطام، تبحثُ عن شيء ما... "
وصلا في هذه اللحظة إلى الطفلة، فوجداها تنقّب بيديها الصغيرتين، عن شيء ما وسط الحطام، و قد احتضنت دبدوباً صغيرًا، قد احترقَ أغلبُه فلم يبقَ منه إلا قماشٌ غيُر واضحِ المعالم.
عصام: هيه يا صغيرة، عمّا تبحثين؟؟.
رفعت الصغيرة رأسها، فجُزع الرجلين لرؤيتها تبكي ! .
اقترب جاسر بالكاميرا، و سلّطها على الوجه الصغير، ثم تذكّر في جزع غير مبرر طفلتَه الصغيرة، " لمياء"، التي بلغت السادسة من عمرها، وكيف كان يداعبُها، ويلاعبُها، و قد امتلأَ وجهُهَا بالنضارةِ و الصحة، و انتظمتْ ملابسُها، في جمالٍ و رقة، تذكّرَ كيفَ كانَ يحوطُها_و أمُّها_ بالعنايةِ و الرعايةِ، و التربيةِ و التسليةِ، و الفسحِ و الرحلاتِ، ملأتْ عليه طفلتُه حياتَهُ و روحَه، و سكنتْ قلبَه؛ فتربّعتْ على عرشِه، كريمةً مصونةً، كانَ حين يضمُّها إلى صدرِه، يشعرُ أنَّ الدنيا قد حِيزتْ له بحذافيرها، فلا يتمنّى أن يتركَها من يدِه، و حينَ يقبّلُها، يشعرُ أنه هناك معَ السحاب، طلبُها أمرٌ، و رغبتُها محقّقةٌ، آآه كم يفتقدُ الصغيرة، كم يفتقدُ تلك الضحكةَ التي تشحنُ خلايا عقلِه المكدودِ دائما؛ بطاقةٍ ، تتفجّرُ مواهبَ و إبداعاتٍ، كم لها من فضلٍ في نجاحِه في عملِه، كم لرضاها عنْه، من أثرٍ في رضاهُ عن دنياه، آآه يا صغيرتي ... لكنّ عزاءَه الوحيد، أنّه سيعودُ حتما لها، قريبا ما سيجمعُ بينهما لقاءٌ، فيستعيدان معًا الذكريات، و يطوفان معا أركان البلاد ... "
أفاقَ من ذكرياتِه على صوت عصام : يجددُ السؤالَ الذي لم تجبْه الفتاة بعد .
" عمّ تبحثين يا حبيبتي ؟"
قالت ذاتُ الوجهِ الشاحبِ، المغبرّ، وسط دموعها بصوت متهدج؛ يُنذر ببكاء وشيك:
"أبحثُ عن عروستي" .
"تمت"