لم يستطع " حسن " أن يميّز كنه هذا الإعصار ... هبّت في وجهه رياح قوية؛ ذكّرته بتلك العواصف الترابية الصفراء التي كانت تهب على قريتهم الريفية فتغمر كل الحياة بالتراب ، كان وقتها وهو صغير _كأي أحمق آخر_ يحب هذا الجو ، بل يعشقه إلى درجة الجنون ، كانت أمّه تراقبه و هي " تتشحتف " في سرّها قائلة لنفسها : " هل هذا هو آخرة صبري ؟ " .. كانا قد أنجباه بعد صيام طويل ، و يأس مرير ، و دوخةِ السبع دوخات على الأبواب بجميع أشكالها و ألوانها ... أبواب تجلس خلفها حكيمة جميلة كالبدر خلف مكتب أنيق لتحجز لهما تذكرة بالشيء الفلاني .. و أبواب أخرى تنطلق من خلفها سحائب من البخور ، مختلف الأنواع و أمواج من روائح عطرية و أحجبة و تمائم .. و أبواب غيرها تجلس خلفها عمائم تتمايز طولا و عرضا.. المهم بعدما يئسا ، و أيقنا أن حلمهما المأمول ، و رغبتهما المرجوة قد تبخر ، سلّما أمرهما إلى الله ، لتنجب حسن بعد تسعة أشهر بالتمام و الكمال ..!
لا يزال حسن يتجرّع ذكرياته مع هبوب هذه العاصفة التي لم يحبها هذه المرة ... حاول أن يفتح عينيه أو أذنيه كي يرى أو يسمع ، لم يسعه هذا في البداية ... هل لا يزال نائما ؟؟
" خير اللهم اجعله خير .."
" خير ؟؟ و يجي منين الخير يا وجه البومة أنت .. !!! "
سمع هذه العبارة فاستبشر خيرا و انبسطت اساريره ، تيقّن أنّها عاصفة ترابية أرضية ليست من كوكب آخر !، هذا صوت يقترب من صوت أنثى و ربما هو يعرفها، فقط لو استطاع أن يكمل دائرة عينه استدارتها ، أو ربما لو أسمعته جملة أخرى ليتعرّف على صوتها أكثر .. فكأنها استمعت إلى أفكاره .. فعاجلته بأخرى أشد منها ..
" مالك متنّح كده زي اللى شاف عفريت حماته ، الله يقطعك يا بعيد .."
ردد جملتها الأخيرة كأنه يتذوقها .. فبدا مخبولا تماما
" الله يقطعك يا بعيد .. الله يقطعك يا بعيد .."
فتح عينيه أخير بعدما هدأت العاصفة قليلا .. ليرى أمامه السيدة " عواطف " صاحبة الشقة ، و التي تطالبه بالإيجار المتأخر " ثلاثة أشهر إلى الآن " ..
رسم على وجهه ابتسامة صفراء ، و قال و هو يغمز :
" ست عطعط .. صباح الفل على أجمل صاحبة عمارة فيكي يا بلد .. م11 "
قالها و أمعاؤه تكركب ، مكذّبة إياه .. تشجب ما قاله بشدة !! ، فلم تكن السيدة عواطف بأزيدَ من يدِ مقشةٍ قديمة ، بليت من كثرة الاستخدام .. س11
" اطلع من دول يا سي الأفندي .."
لا يزال حسن مبتسما ، محاولا اسكات أصوات أمعائه كي لا تفضحه ..
" يكون في علمك .. سأعطيك مهلة إلى آخر الأسبوع .. "
أمسك حسن بطنه و انثني قليلا .. و إن ظل على ابتسامته ، لكن فتح عينيه فبدا منظره آية في البلاهة ..
تعجّبت " عواطف " من منظره لكنّها وضعت يديها على خاصرتها متوعّدة ..
" بعدها يا إما الإيجار ، يا إما ، تلم كراكيبك _ هذه من مقلب القمامة على ناصية الشارع .. "
لم يرد حسن و إن بدا عليه الاستياء بشدة ، هرش في رأسه .. و اعتدل في وقفته .. و اختفت ابتسامتة الحمقاء وهو يتأمّل منظر سريره و قد علته أكوام القمامة ، و مكتبه و القطط تخرج من أدراجه مبتهجة بالمسكن الجديد ...
سكت طويلا .. شردت نظراته ... و أخذ يتأمل وجه " عواطف " العجيب ، ليقول بعد دهر من الزمن :
" أستطيع أن أفهم إنك تطرديني من بيتك يا ست عواطف .. أليس كذلك ؟ "
ضربت عواطف يدها على صدرها في حركة بلدية ، ثم قالت :
" لا أنا جاية أعزمك على فرحي أول الشهر يا خويا ...."
و قبل أن يرد حسن ردا يعيد لها المرارة بعد أن أزالتها من سنوات ...
" اسمع يا جدع انت ... قدّامك لحد أول الأسبوع ، بعدها من غير مطرود.."
ثم ابتسمت يد المقشة في توحّش .. و اقتربت من حسن ، الذي رأى أنه أنسب وقت ليتراجع ... لا تزال السيدة عواطف تقترب ، و حسن يتقهقر ، في هذه اللحظة .. انطلق رنين هاتفه الجوّال فنظر إليه حسن كأنه يستنجد به .. اقتربت منه " عواطف " و تراجع هو حتى منضدة الصالة ليستند بظهره عليها فلا يجد مفرا ... توقف مرتعشا ، و قد ألجم الرعب أطرافه و أعصابه ...
يُتبع