لا أدري حقا إن كنت سأتمكن من نسيان كل ما حدث ! ...إن بداخلي بركان ثائر كلما حاولت إخماده ازداد اشتعالا ! هل أنا حقا بهذا الغباء ؟ أهو التسرع و التهوّر الناتج عن آلام لا تُحتمل ؟ و كيف تؤدي الآلام إلى المزيد منها ؟ أم أنها لحظات من اللا عقل في زمن اللاسيطرة على كثير من الجنون ؟
لقد بدأ الأمر بألم موجع لا يُحتمل في ظهري .و أنا من اعتاد على تحمّل أنياب الأوجاع تنغرس بعمق في جسدي و روحي لسنين طوال ... لكن هذا الألم بالذات قد أعجزني عن المقاومة و أقعدني عن الحركة التي هي رأسمالي في السعي على رزقي و رزق عيالي ...
لازلت أذكر جيدا كيف أشفق عليّ صديقي " خالد" و أصرّ على اصطحابي إلى طبيب شهير يخصص يوما كاملا من كل شهر للكشف المجاني على الغير قادرين على تحمّل ثمن الكشف .. لم أجادل كثيرا ..فقد كنت مضطرا إلى مجاراته ..و ذهبنا إلي حيث تلك العيادة الفارهة .. و ليتنا لم نفعل ...
لا تبرح مخيلتي أبدا تلك السجادة القيّمة بنقوشها و ألوانها ووبرها الكثيف .. لقد خفت أن تطأها قدماي الهزيلتان و حذائي المهتريء العتيق ..فمررت بمحاذاتها للوصول إلى تلك الفتاة الجميلة الأنيقة التي تجلس خلف المكتب الأبيض تستقبلك بابتسامة جذابة ... أمّا صديقي الجديد خالد فقد ابتسم في تعجب وواصل سيره على السجادة بحذائه الجديد اللامع .... بينما انشغلت أنا بمحاولة فهم كل تلك اللوحات على الحائط و التي تمتليء برسومات و خطوط غريبة و تنسكب فيها الألوان و كأن طفلا قد عبث بها !
لقد وصلنا قبل الموعد الرسمي للعمل بالعيادة .. و كنّا أول الحاضرين ذاك اليوم ...لا بأس من الانتظار فهو ممتع حقا في هذا الجو المكيّف الهواء و تلك الموسيقى الهادئة التي تنبعث برقة من كل الأرجاء ...
ومن قدرِنا .. كان الطبيب " زاهر " متواجدا و مستعدا لاستقبال المرضى .....وقد استقبلنا بابتسامة عريضة مطمئِنة .......و بعد الكشف السريع فهمت من كلامه أنه لا مفر من القيام بعملية جراحية عاجلة تسبقها عدة تحاليل و فحوصات ضرورية !
و بقلق شديد استفسرت عن التكاليف ...فنظر إليّ نظرة طويلة متفحصة ..و غريبة بعض الشيء ثم ّ قال :
" لا تشغل بالك أبدا بهذه الأمور ... ألم يوضّح لك خالد انني أعذر من لا يملك أن يدفع ؟ إن دعواتك لي بالخير و البركة تكفي و تزيد .."
كدت آنذاك أن أطير من فرحة لم أعتدها أو قل لم أجربها قط في حياتي ... أوشكت أن أمطره بقبلاتي و أحضاني لولا خشيتي من تأثّر رداءه الثمين النظيف من آثار تلك العاطفة التي قد تلوّث وجاهته الملفته للنظر ...
لم يطل الأمر كثيرا حتّى وجدتني في غرفة العمليات بعد أن ودّعت زوجتي الواقفة على بابها و قد ملأت الدموع الساخنة عينيها و انهمرت سيولا كانت تحاول كبحها كي لا تقلق ابننا الحبيب أحمد - ذي الأعوام السبعة- الذي احتضنني بشدة ... أما هي فقد تابعتني بعينيها و كلماتها الباكية : " شفاك الله يا سالم و أعادك بألف خير لنا "
لم أدرك سوى أنني قد أغمضت عيناي و استسلمت متمنيا أن يجعل الله بيد الطبيب شفاءا لآلامي المبرحة ...
و حينما عاودت فتحهما أحسست برغبة ملحّة في النهوض من السرير برغم التعب و الدوار الذي أحسست به .. لكنه الأمل و التشوق لتجربة الحياة بلا ألم ...
نهضت ..ثمّ مشيت مستندا إلى السرير ... و صرخت من الفرحة متحسسا مكان العملية الجراحية في ظهري ... كان مكان الجرح الذي تمت خياطته كبيرا بعض الشيء ..لا يهم .. فها أنا ذا أمشي دون أن يطعنني مجددا ذلك الألم المقيت ...
و بعد نشوة السعادة التي تشككت كثيرا في استمرارها ... أحسست به مجددا ذاك الذي بتّ لا أطيق ذكر اسمه ...نعم إنه الألم و المزيد منه ...لكنّه يغزو جانبي الأيمن هذه المرة ! تباًّ له ! أما من ضحية غيري له ؟؟
استحيت كثيرا من معاودة زيارة الطبيب زاهر .. فقد أحسست أنني قد أثقلت عليه بالكثير و هو الذي أصر أن يدفع كل التكاليف من جيبه الخاص ... فذهبت إلى طبيب عام في المركز الطبي البسيط الذي يتوسّط حيّنا الشعبي الفقير .. و هو طبيب حديث التخرّج استمع إلى شكواي باهتمام ثم استغرق وقتا في المزيد من الأسئلة و الفحص الدقيق لمكان الندبة الناتجة عن العملية ثم طلب منّي عمل أشعة و............
تلقيت منه الصدمة المؤلمة ..... فقد قال لي :
" لقد أخبرتني بأمر العملية التي في العمود الفقري و لم تخبرني عن استئصال كليتك اليمنى ... إن سبب ألمك هو أمر طبيعي بعد إجراء عمليتين و نزف الكثير من الدماء... كان الله في عونك !"
كليتي؟ كيف حدث ذلك ؟ لا يمكن !
و كان يجب أن أذهب للطبيب زاهر ... ففعلت ... و مكثت في غرفة الاستقبال الفارهة وقتا طويلا ...إلى أن قابلني بضيق واضح في كل قسمة من قسمات وجهه الممتليء .. و لم يلبث أن قال : " أهلا يا سالم ..أية خدمة ؟"
قلت : " سيدي الطبيب ..ثمة خطأ قد حدث بالتأكيد ...إن كليتي ...أعني ...إنها مفقودة ! و ...."
فأجابني ببرود لا يخلو من قسوة : " اسمع يا سالم .. عمليتك كانت تتكلف أكثر من عشرة آلاف من الجنيهات .. بالإضافة إلى الفحوصات و التحاليل و الأشعة وقد قمت بعمل معروف كبيرلك ...كليتك قد بيعت بإثني عشر ألف جنيه ... بمعنى أنه قد تبقّى لك عندي أقل من ألفي جنيه و قد كنت على وشك أن ......"
قاطعتُه بمزيج من ذهول و غضب مستعر لم أفلح أبدا من تهذيبه : " بِعت كليتي ؟ دون إذني ؟ دون حتى أن أعرف ؟ أنت لست إنسانا أبدا ! سأُبلغ الشرطة و سيكون مصيرك السجن ... و صديقي خالد سيشهد عليك فقد حضر معي و....."
لم أحس بمثل هذا الذل و الاحتقار لكل شيء بل و لنفسي أيضا ..حين علا صوت ضحكته الساخرة الهازئة و هو يقول : " خالد ؟ صديقك ؟ أتمزح معي ؟ إنّ خالد يورّد لي المرضى و يأخذ عمولته الكبيرة ....يالك من مغفّل !"
" مستحيل ! مستحيل !" هذا ما ظللت أردده و أنا أنزف دموعاً من عيني و أنفي بل من كل مسام جسدي الغارقة في عرق الغضب و الانفعال المختنق ..لكن دهشتي قد تضاعفت حينما بدأ في شرح عرضه المغري على حدّ قوله!
" أنصت إليّ جيدا يا سالم ! أعرف أنّك تحتاج للمال لتحسّن من حياتك فما رأيك في ثلاثون ألفا من الجنيهات تقبضها في يدك دفعة واحدة؟"
قلت بلا تردد و بغيظ واضح و بصوت مبحوح باكِ : " لماذا ؟هل تريدني أن أبيع قلبي هذه المرّة؟"
لكنه لا يرى إلا مايريد أن يراه ... فقال و قد التمعت عيناه الكبيرتان : " لا ... ولا أريد منك ردا أو انفعالا لا ضرورة له ...فكل المطلوب هو .... إحدى كليتي ابنك الجميل الذي رأيته بصحبة زوجتك في المرّة السابقة ... و لا بأس من العيش بكلية واحدة و هو ...."
كم وددت حينها أن أطبق يدي على رقبته ..أن أصفعه بكل ما أوتيت من قوة ...لكني اكتفيت بنظرة احتقار و توعّد و هممت بالمغادرة للتفكير فيما سأفعل ..
لم يستسلم .-هذا الشقيّ اللّئيم - ظل يلاحقني حتى الباب مكملا سرد أفكاره الشيطانية الحقيرة :
" أربعون ألفا ! و ستكون مقدّما ! لا تخف فالعملية سهلة و سريعة و سيقوم بها طبيب ممتازفي نفس المستشفى الخاص بي لأني سأسافر في مهمة عاجلة و أعود مساءا لأطمئن على كل شيء...صدّقني و لن يعرف أحدا بالأمر ...الساعة الخامسة عصراً هي أفضل موعد ...إنّ من يطلب هذه الكلية مستعجل جدا عليها من أجل ابنه و ......اسمع : خمسون ألفا و هذا هو كل شيء .. الفرصة لا تأتي سوى مرة في العمر كما تعلم .."
شعرت بأني أمر بأسوأ كابوس في حياتي ...
لكن المبلغ ظلّ يتردد في ذاكرتي .. إلى أن حزمت أمري ... و اتصلت به بعد ساعتين من عرضه الفظيع ...كان الجمود و البرود مسيطرا عليّ حين طلبت أن يكون المبلغ هو سبعون ألفا لا خمسون .... فوافق بعد جدال
وبعد أن سلّمني المبلغ ... قمت في اليوم التالي ..باصطحاب أحمد إلى المستشفى. حيث قام طبيب التخدير المُتعاون بالتعامًل مع أحمد فألبسه ملابس خاصة مدعيا بأننا نلعب لعبة القراصنة ليقنعه بتغيير ملابسه ...في الحقيقة هو لم يكذب أبدا في هذا !
و اجتمع فريق الجزارون في سرية و سرعة قد اعتادوا عليها على ما يبدو ....
و لا أُنكِر أن كثيرا من الأحاسيس المرهقة المؤلمة قد هاجمتني و لا تزال تفعل... و بأن ضميري قد أوشك على إرغامي على التراجع عن الأمر كله .... لكن شيء ما لا زلت لا أدرك كنهه كان يجعلني أصر على الاستمرار ...
تمّ الأمر ... و حان وقت العودة للمنزل ... و طلبت غرفة للعناية بأحمد حتى يستيقظ ا...
و عدت إلى المنزل لتستقبلني زوجتي الحبيبة التي كانت في غاية القلق عليّ ... ابتسمت مطمئنا اياها و مؤكٍدا عليها موعد السفر في اليوم التالي ...و دخلت إلى الغرفة الصغيرة حيث ينام ابني أحمد آمنا مطمئنا ... فطبعت قبلة على جبينه و أحسستُ بأني أكاد أسمع صرخات الطبيب القاسي حينما يرى ابنه أحمد بعد أن يفيق من عملية سلب كليته ....
مفارقة عجيبة أن يكون اسم ابنه الأصغر أحمد ..كإسم ابني الوحيد ...
لا أدري حقا كيف خططت لكل هذا ! كيف أقنعت حارس العمارة بأنني سأصطحب أحمد فور نزوله من حافلة المدرسة ليسافر مع أبيه ... و لا كيف خطرت لي فكرة الذهاب إلى متجر الأطفال حيث يجلس ذلك الفتى الذي يقوم بتلوين وجوه الأطفال ...و لا كيف أقنعت الولد المسكين باختيار شخصية الرجل العنكبوت لتغطي ملامحه كلها ....كان يبدو سعيدا جدا ...لدرجة أني أوشكت على التراجع ... لكنّه الألم الذي سكن كل حواسّي و قادني نحو المزيد من الألم ....و الندم ..ذلك الذي تنغرس فيّ مخالبه بلا رحمة !