1[/CENTER ALIGN]
كن جميلا..
تري الوجود جميلا...
لا يدري من قائلها , ولا أين ومتي , أو ممن سمعها؟!.. لكنه آمن بها .. بل حاول جهده أن يحقق معانيها ويطبق الشطر الأول , أن يكون إنسانا جميلا.. فتحلي بدماثة الخلق.. و رقة الطبع .. وبشاشة الوجه.. وسكينة النفس.. آملا أن يتحقق له الشطر الثاني .. لكنه أبدا ما رأي في الوجود أي وجه للجمال. ومع ذلك لازال يؤمن بقول الشاعر ويردده في سره وجهره في إصرار عجيب كمن يشحن نفسه بطاقة تدفعه دفعا للحياة... فما زال يردد
كن جميلا... كن جميلا... كن جميلا...
عسي أن تري الوجود يوما ما جميلاّّ !!
كان ذلك يدعمه للخوض في غمار الحياة , كاشفا كل يوم عن وجه جديد لا يرتضيه , لكنه دوما يتوقع أن يأتي الجمال الذي ينشده في طيات المستقبل القريب.
كم هي رائعة تلك الحياة ... حين تتوسد كفيك وترقد علي شقك الأيمن - أو الأيسر كيفما شئت- ثم تطبق جفنيك المتخمين بنعاس ثقيل أنهكه شقاء يوم طويل كالدهر وتسلم روحك لسلطان النوم وتغرق في عالم الأحلام ... حينئذ كان يشعر بلذة الحياة .. هناك فقط في حلمه الخاص الذي نسجه بوعي كامل , واشتهاه في يقظته.. هنالك .. حيث رأي وجها للوجود جميلا...
كان حلما واحدا يراوده .. أو بالأحرى .. كان هو الذي يراود ذلك الحلم ... كل ليلة , كأنه يستدعيه من غيابات عقله , وعن عمد يشحن به نفسه التواقة , ويدفع مخيلته دفعا للخوض فيه
.كان يخلع رداء الواقع المهلهل البالي ويغسل روحه بنسمات حياة أخري , و وجود آخر أرق من النسيم
.
كان يجرد ذاته الفانية بذات أخري ترقي إلي منزلة حلمه المنشود
…
فقد كان يحلم بالجنة
….
نعم
…
الجنة
..
ولم لا؟!
..
كان يعمل بالمثل القائل (إن سرقت اسرق جمل , وان عشقت اعشق قمر ) وأضاف هو شطرا ثالثا ( وإن حلمت
..
احلم بالجنة )
…
جنته هو
..
كما تمناها وتخيلها
…
وعد الرحمن الذي لا يخلف وعدا , سبحانه عز من قائل : " أنا عند حسن ظن عبدي بي"
..
وهو أحسن الظن بالله
..
وتمني عليه , وهو أهل للبر والوفاء
…سبحانه
.
جل ما تمناه أن يدخل الجنة
..
هكذا .. مباشرة و وبغير حساب.
"إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب "
وهو خير مثال للصبر والرضا بقضاء الله ... رضي بقدره وعاش الحياة كما قسمها له ربه .. ورضي ..وصبر .. أذعن لقرار أبيه ورضي بزيجة أشبه بحكم الإعدام .. وصبر , كتم رغبته في زوجة بكر تكافئه سنا وفكرا.. ونزل علي رغبة أبيه برا له وخوفا من مغبة العقوق ..ورضي وصبر.. تنازل عن حبه الأول والوحيد لفتاة تعلق بها فؤاده ورضي بالزواج من امتثال - هذا اسمها وليس نعتها أو وصف حالها- أرملة شقيقه الأكبر خليل والتي تكبره بقرابة العقد من الزمان ولم تنل من التعليم إلا قدرا شحيحا ,وليس لها أي حظ من الجمال, لكن لها من الأولاد اثنان ولد وبنت هما أبناء شقيقه المتوفى واللذان أصبحا بالتبعية في مقام أبنائه .. ورضي.. وصبر. دخل علي أرملة شقيقه دون عرس أو حفل زفاف أو حتى صورة للعروسين للذكري , فما كان هناك عروس ولا فستان ولا زينة.. دخل في شقة أخيه وورث جهازه ومتاعه كما ورث زوجته وابنيه وهمومه ... فرضي .. وقنع .. وصبر. رضي بوظيفة بسيطة في هيئة التأمينات و المعاشات يكاد مرتبه منها يفي باحتياجات أسرته التي زادت فردين نتيجة الزيجة الميمونة حيث أنجب من أرملة أخيه – عفوا.. زوجته - ولدا هو محمود وبنتا هي سحر.تحمل تسلط وأذي رئيسه المباشر في العمل المدعو عطية ...ورضي ...وصبر. رضي بضيق ذات اليد , ونار الغلاء ,و قيظ الشمس .. ورائحة العرق .. والماء الملوث بالصرف الصحي .. والطعام الجالب لشتي أمراض العصر.. والزحام .. والظلم .. والقهر .. وإهدار الكرامة.. وصمت .. ورضي .. واحتسب.. وصبر.
كان راضيا .. صابرا.. مؤمنا بقضاء الله .. حسن الظن به.. آملا أن يدخل الجنة قانعا .. بغير حساب.. ولو في حلمه.
كان الحلم مركزا ومحددا جدا , يعلم يقينا أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر, لكنه ما كان يشتهي إلا شيئا واحدا ... الحور العين ..
أيقن أن الحلم قصير ,وأنه ليس مخلدا فيه , والوقت شحيح لا ينبغي إهداره , فكان يدخل جنته الموعودة بلا حساب .. بلا سؤال ... بلا مراسم.. أو طقوس.. يبدو في أبهي صورة , وأجمل لباس . فتيا .. فحلا.. رائق النفس وهاجا.. يسير علي بسط من السحاب الصافي تداعب مسامعه تسابيح الملائكة .. "دعاؤهم فيها سبحانك , وتحيتهم فيها سلام"... يتمايل طربا مومئا برأسه في ترداد لتحية الملائكة ... سلام .. سلام.. سلام .. في بشاشة وترحاب.
تتكشف لبصره أضواء مبهرة .. نور لا يعرف مصدره .. لكنه يأنس لوجوده.. لا شمس.. ولا قمر.. ولا مصابيح .. لكن ثمة نور.. نور في كل مكان.. كأنه ينبعث من ذاته.. وهناك .. خلف خمائل من نور, تتجلي وجوه الحور .. بأجساد كالبلور تسطع من تحت سراويل وأوشحة من حرير ليس له لون معلوم يكشف عن جمال لا يماثله جمال ..سبحانه جل الخلاق. "حور عين , كأمثال اللؤلؤ المكنون"
حينما يتعلق قلبه قبل بصره , ترنو إليه صاحبة الاختيار ويذوب في ليلة عرس عذرية تكفيه وتروي روحه الظمأى , وتضخ في عروقه وقود الحياة , تنفث في نفسه آمالا ورغبات .. ونغم التسابيح لازال يسري في روحه ... سبوح .. قدوس .. رب الملائكة والروح .. سبوح .. سبوح..
هنالك .. وهنالك فقط .. كان يجد الوجود ... رائع الجمال.