رسالة - التدريب الرابع للمسابقة - Ghadat2009
مرسل: 21 مايو 2009, 12:03 am
الرسالة الحية !
خلف حائط من أشوِلة الرمل ..في حفرة صغيرة جلس ...بل جلس كل طرف من أطرافه على أي متكأ استطاع تلمّسه ..محاولا أخذ هدنة من كل ما يجري ..حتى من تلك الهدنة المزعومة !
أخرج منديلا متسخا من جيب سترته الخضراء المغبرة ....و أخذ يمسح عن جبهته مزيجا من العرق المختلط بالتراب و الدم و رذاذ البارود ....أغمض عينيه للحظات ...مستندا إلى ذاك الجدار ..محاولا استرجاع صورهم : أباه الحبيب ...أمه الحنون ...حبيبته الغالية ..أخواته ...جيرانه ...أصدقاؤه ..و ....
ياللهول ! لقد بدؤوا من جديد ! لكن المهلة لم تنتهي بعد ! هاقد عادت تلك الروائح الدخانية الخبيثة تزحم أنفه الشاكي ...و عادت معها معاناته ..و صراعه الداخلي المزعج !
حسنا ! إنهم يعبثون بأعصابنا ! و قد هدؤوا الآن ! غير أنهم أرادوه هدوءا مصحوبا بمنغصات الشك !
" أتُراها قد أنجبت الآن ؟ كم أفتقدك يا "هناء" ! كم احترمتك حين صبرتِ و تحمّلتِ رفض أمّي لزواجي منكِ!"
و تذكر أمّه التي كانت تستمتع بزيارات لكثير من أسر من لهنّ فتيات في سن الزواج ...و تظل توحي بأنها تبحث عن عروس من أصل طيب لابنها الوسيم ! فيترقب الجميع و تشرئب الأعناق ...و ضحك بمرارة حينما عاودته ذكرى نقاشاته المستمرة مع أمه لتقتنع بــ هناء كزوجة له !
" بائعة في محل يا عُمر ؟ أهذه هي الزوجة المناسبة لك ؟ وا حسرتاه ! وا فضيحتاه !"
" أرجوكِ يا أمي يا حبيبة قلبي ...أقبّل رأسك و يديك ..إرضي عنّي و دعيني أتزوج من اختارها قلبي و عقلي ...الفقر ليس عيبا في حد ذاته ! هي تعمل لتنفق على دراستها و تخفف عن أباها بعض أعبائه ! "
" ماذا أقول للناس ؟ للأهل ؟ أتوقع أن يطرق بابنا العمّال وأمثالهم لخطبة أخواتك التعيسات ! فهل ستوافق ؟ "
هاهو القصف يشتد ... لكنهم هذه المرة يركزون على الجهة الغربية ...ليتهم يهدؤون...و ليتهم يهتدون !
لا أدري لم أحسّ برغبة ملحّة في كتابة رسالة ...يريدهم أن يقرؤوها جميعا ! حتى ابنه أو ابنته ..قد يقرؤوها ..ليعلموا صدق ماحدث لأبيهم المغلوب على أمره !
لاتزال تلك الورقة المحتوية على بعض الإرشادات في جيبه ... و القلم ..يحتفظ به في جيبه الداخلي ..قريبا من قلبه ..فلطالما أحبه و عبّر عنه و عن أحاسيسه بكتابات و أشعار ..فرت دمعة من عينه.. حزينة ..هاربة من إحساس القهر و الإرغام على خوض حرب لن يتمكن حتى من الاستشهاد فيها ! فالحرب بين الإخوة .. ليست من متطلبات نيل الشهادة ..بل عكسها تماما
بدأ يكتب في عجالة ..عن كرهه لخوض حرب لم و لن يفهمها ! عن حنينه لوطنه ! عن شوقه لقلب أمه و عيون زوجته المحبة ....و للجميع ...لامزيد من الوقت للمشاعر! يجب أن يدين كل من أشعل فتيل مثل هذه الحرب الدنيئة !
ارتعدت فرائصه لهول الانفجارات مرة أخرى ... و ...انتهى الحبر من القلم ! يا للحظ العاثر! ماذا أفعل ؟ لا بد من كتابة كل شيء ! و تذكر جرحه الأخيرمن رصاصة لامست ذراعه ! ..لازال الجرح ينزف ... لكن شعور الألم نفسه توارى خلف مشاعر الغضب و الندم و القلق و الاختناق !
انتهى من ملء قلمه بدمائه ! سخر من نفسه بمرارة ..فقد كتب قصيدة عنوانها .( أكتب إليكِ بمداد من دمى ) ..و هاهو يفعلها ..خلال هدنة لعينة لحرب ألعن !
و كأنه كان في سباق مع الزمن ...كان يسرع في الكتابة ..و ينظر بين الحين و الآخر من خلال فتحات صغيرة في الجدار الرملي ! لا جديد ...لكنه هدوء غير مطمئن ...هل اقتربت النهاية ؟
" سأدوّن كل شيء ......لاااااااااا !!!" انفجار قريب جدا !
يا للصدمة ! ماهذا ؟ لقد سقط عليه ذراع دامي ! إنه ذراع ..أشرف .." .ياالله ! يا لطيف ! يا رحيم ! "
عرفه من الخاتم المميز في إصبعه ! أين هو ؟
صاح بصوت يكاد يقطع أحباله الصوتية : " أشراااف ! أشراااااف ! "
أفاق من هزّته العنيفة على الحقيقة الرهيبة ... تلك اليد بجانبه ..هي كل ما بقي من زميله أشرف !
صرخ في انهيار :
" البكاء ليس للرجال !! هو ليس للرجال ! سأجعلكم الباكين ! لا لا ..أعلم أن هذا خطأ ! ارحمني ياربي ! لا أعلم ما أفعل ..."
و توالت الانفجارات و القصف ..طائرات ..قنابل .. مدفعيات ........أهوال !
وضع عمر الرسالة في جيبه ...و أخذ يردد الشهادتين ..بشفاة مرتجفة ا ..و عينين مغمضتان في قوة ..
" اللهم اجعله خيرا ! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !"
أفاق الشيخ محمد ..والد عمر على صوت زوجنه المذعور ...
" بسم الله الرحمن الرحيم ...خيرا يا أم عمر؟ أهو ذلك الكابوس البغيض مجددا ؟ "
تبكي المسكينة بتألم واضح " نعم ... أحس أن عمر في خطر ألا تصدقني ؟ يا حبيبي يا عمر ! كم أشتاق إليك !"
" ليس أمامنا إلا الدعاء ....و الثقة في قضاء الله و حكمته و رحمته "
قامت الأم كعادتها مذ ذهب ابنها الى تلك الحرب .... تصلي قيام الليل ....تدعو ...تتضرع للجبار الكريم!
في الصباح ... دق جرس الباب ...الذي كلما دق ..تتسارع معه ضربات قلب أمّه الملهوفة ...
فتح الأب الباب بكثير من القلق و الترقب ..كان الطارق من الجيش...مطأطيء الرأس في ضيق .. حينما لمحته الأم صرخت و بكت " عمر ....عمر ... أريد ابني ...لا تقولوا مات ...لا تقـــ ... " و أغشي عليها من هول الصدمة !
أسرع الجميع اليها ..." أماه ...أرجوكِ أفيقي " قالتها بناتها الثلاث و ....ابنها ..عمر !!!!
ميزت الأم صوته ...و نظرت اليه بحنان " الحمد لله ...عدت سالما يا فلذة كبدي !"
" ليس تماما يا أمي ! فلدي إصابة خطيرة في ظهري و قدمي ...تجعلني ...معاقا لبقية عمري !! "
أصيب الجميع بنوبة بكاء حادة ... و انطلق صوت الشيخ الأب من بين دموعه الحارة :
" اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها "
أخرج عمر من جيبه الرسالة و نظر اليها مليا ...ثم عقد النيّة على أمر في نفسه ..............
خلف حائط من أشوِلة الرمل ..في حفرة صغيرة جلس ...بل جلس كل طرف من أطرافه على أي متكأ استطاع تلمّسه ..محاولا أخذ هدنة من كل ما يجري ..حتى من تلك الهدنة المزعومة !
أخرج منديلا متسخا من جيب سترته الخضراء المغبرة ....و أخذ يمسح عن جبهته مزيجا من العرق المختلط بالتراب و الدم و رذاذ البارود ....أغمض عينيه للحظات ...مستندا إلى ذاك الجدار ..محاولا استرجاع صورهم : أباه الحبيب ...أمه الحنون ...حبيبته الغالية ..أخواته ...جيرانه ...أصدقاؤه ..و ....
ياللهول ! لقد بدؤوا من جديد ! لكن المهلة لم تنتهي بعد ! هاقد عادت تلك الروائح الدخانية الخبيثة تزحم أنفه الشاكي ...و عادت معها معاناته ..و صراعه الداخلي المزعج !
حسنا ! إنهم يعبثون بأعصابنا ! و قد هدؤوا الآن ! غير أنهم أرادوه هدوءا مصحوبا بمنغصات الشك !
" أتُراها قد أنجبت الآن ؟ كم أفتقدك يا "هناء" ! كم احترمتك حين صبرتِ و تحمّلتِ رفض أمّي لزواجي منكِ!"
و تذكر أمّه التي كانت تستمتع بزيارات لكثير من أسر من لهنّ فتيات في سن الزواج ...و تظل توحي بأنها تبحث عن عروس من أصل طيب لابنها الوسيم ! فيترقب الجميع و تشرئب الأعناق ...و ضحك بمرارة حينما عاودته ذكرى نقاشاته المستمرة مع أمه لتقتنع بــ هناء كزوجة له !
" بائعة في محل يا عُمر ؟ أهذه هي الزوجة المناسبة لك ؟ وا حسرتاه ! وا فضيحتاه !"
" أرجوكِ يا أمي يا حبيبة قلبي ...أقبّل رأسك و يديك ..إرضي عنّي و دعيني أتزوج من اختارها قلبي و عقلي ...الفقر ليس عيبا في حد ذاته ! هي تعمل لتنفق على دراستها و تخفف عن أباها بعض أعبائه ! "
" ماذا أقول للناس ؟ للأهل ؟ أتوقع أن يطرق بابنا العمّال وأمثالهم لخطبة أخواتك التعيسات ! فهل ستوافق ؟ "
هاهو القصف يشتد ... لكنهم هذه المرة يركزون على الجهة الغربية ...ليتهم يهدؤون...و ليتهم يهتدون !
لا أدري لم أحسّ برغبة ملحّة في كتابة رسالة ...يريدهم أن يقرؤوها جميعا ! حتى ابنه أو ابنته ..قد يقرؤوها ..ليعلموا صدق ماحدث لأبيهم المغلوب على أمره !
لاتزال تلك الورقة المحتوية على بعض الإرشادات في جيبه ... و القلم ..يحتفظ به في جيبه الداخلي ..قريبا من قلبه ..فلطالما أحبه و عبّر عنه و عن أحاسيسه بكتابات و أشعار ..فرت دمعة من عينه.. حزينة ..هاربة من إحساس القهر و الإرغام على خوض حرب لن يتمكن حتى من الاستشهاد فيها ! فالحرب بين الإخوة .. ليست من متطلبات نيل الشهادة ..بل عكسها تماما
بدأ يكتب في عجالة ..عن كرهه لخوض حرب لم و لن يفهمها ! عن حنينه لوطنه ! عن شوقه لقلب أمه و عيون زوجته المحبة ....و للجميع ...لامزيد من الوقت للمشاعر! يجب أن يدين كل من أشعل فتيل مثل هذه الحرب الدنيئة !
ارتعدت فرائصه لهول الانفجارات مرة أخرى ... و ...انتهى الحبر من القلم ! يا للحظ العاثر! ماذا أفعل ؟ لا بد من كتابة كل شيء ! و تذكر جرحه الأخيرمن رصاصة لامست ذراعه ! ..لازال الجرح ينزف ... لكن شعور الألم نفسه توارى خلف مشاعر الغضب و الندم و القلق و الاختناق !
انتهى من ملء قلمه بدمائه ! سخر من نفسه بمرارة ..فقد كتب قصيدة عنوانها .( أكتب إليكِ بمداد من دمى ) ..و هاهو يفعلها ..خلال هدنة لعينة لحرب ألعن !
و كأنه كان في سباق مع الزمن ...كان يسرع في الكتابة ..و ينظر بين الحين و الآخر من خلال فتحات صغيرة في الجدار الرملي ! لا جديد ...لكنه هدوء غير مطمئن ...هل اقتربت النهاية ؟
" سأدوّن كل شيء ......لاااااااااا !!!" انفجار قريب جدا !
يا للصدمة ! ماهذا ؟ لقد سقط عليه ذراع دامي ! إنه ذراع ..أشرف .." .ياالله ! يا لطيف ! يا رحيم ! "
عرفه من الخاتم المميز في إصبعه ! أين هو ؟
صاح بصوت يكاد يقطع أحباله الصوتية : " أشراااف ! أشراااااف ! "
أفاق من هزّته العنيفة على الحقيقة الرهيبة ... تلك اليد بجانبه ..هي كل ما بقي من زميله أشرف !
صرخ في انهيار :
" البكاء ليس للرجال !! هو ليس للرجال ! سأجعلكم الباكين ! لا لا ..أعلم أن هذا خطأ ! ارحمني ياربي ! لا أعلم ما أفعل ..."
و توالت الانفجارات و القصف ..طائرات ..قنابل .. مدفعيات ........أهوال !
وضع عمر الرسالة في جيبه ...و أخذ يردد الشهادتين ..بشفاة مرتجفة ا ..و عينين مغمضتان في قوة ..
" اللهم اجعله خيرا ! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم !"
أفاق الشيخ محمد ..والد عمر على صوت زوجنه المذعور ...
" بسم الله الرحمن الرحيم ...خيرا يا أم عمر؟ أهو ذلك الكابوس البغيض مجددا ؟ "
تبكي المسكينة بتألم واضح " نعم ... أحس أن عمر في خطر ألا تصدقني ؟ يا حبيبي يا عمر ! كم أشتاق إليك !"
" ليس أمامنا إلا الدعاء ....و الثقة في قضاء الله و حكمته و رحمته "
قامت الأم كعادتها مذ ذهب ابنها الى تلك الحرب .... تصلي قيام الليل ....تدعو ...تتضرع للجبار الكريم!
في الصباح ... دق جرس الباب ...الذي كلما دق ..تتسارع معه ضربات قلب أمّه الملهوفة ...
فتح الأب الباب بكثير من القلق و الترقب ..كان الطارق من الجيش...مطأطيء الرأس في ضيق .. حينما لمحته الأم صرخت و بكت " عمر ....عمر ... أريد ابني ...لا تقولوا مات ...لا تقـــ ... " و أغشي عليها من هول الصدمة !
أسرع الجميع اليها ..." أماه ...أرجوكِ أفيقي " قالتها بناتها الثلاث و ....ابنها ..عمر !!!!
ميزت الأم صوته ...و نظرت اليه بحنان " الحمد لله ...عدت سالما يا فلذة كبدي !"
" ليس تماما يا أمي ! فلدي إصابة خطيرة في ظهري و قدمي ...تجعلني ...معاقا لبقية عمري !! "
أصيب الجميع بنوبة بكاء حادة ... و انطلق صوت الشيخ الأب من بين دموعه الحارة :
" اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها "
أخرج عمر من جيبه الرسالة و نظر اليها مليا ...ثم عقد النيّة على أمر في نفسه ..............