رسالة- التدريب الرابع للمسابقة - السيد فهيم
مرسل: 16 مايو 2009, 2:35 pm
علم وصول
كان ُيلح في السؤال ويكرره مرةً تلو الأخري دونما ملل أو يأس من الحصول علي جواب شاف، َتَقر به عينه ويهدأ له باله ، حتي باتت تتجنبه بل تتحاشي الحديث معه خشية سؤاله الملح :
هو بابا راح فين يا ماما ؟!
-
سافر يا حبيبي .
-
طيب هايرجع امتي ؟!
لم تجد أبدا إجابة فكانت تلوذ بالصمت وتصرف وجهها إلي الجهة الأخري مغالبة عبرة قفذت إلي عينيها رغما عنها ... أحيانا كانت تنهض فجأة تاركة صغيرها لحيرته وتساؤلاته لتتظاهر بالإنشغال في أعمال المنزل مغالبة دموعها.. وأحيانا كثيرة كانت تأخذه في حضنها وتضمه بشدة إلي صدرها عاصرة عينيها في لوعة كي تسمح لفلول عبراتها بالسقوط علي شعره الأسود الكثيف .. لتمتزج خفقات قلبها الملتاع بدقات قلبه المحملة بالشوق لوالده الذي افتقده و تاق إليه كثيرا .. فكما كان لأبيه الأبن الوحيد ... كان الأب له بمثابة الصديق الأوحد ، فقد كان يصحبه معه في كل خروجاته أيا كانت طبيعتها نزهة أو عمل ... كان يأنس به ويفضي إليه بالكثير من تجاربه وخبراته .. كان يعاونه في تبديل ملابسه حتي كان الصغير يرفض أن تعاونه أمه ويصر علي معونة أبيه الذي كان يتخير له ملابسه بعناية بل وأحيانا كان يقع اختياره علي ملابس مشابهة لملابسه ليبدوان في جولاتهما مثل رجل بالغ ونسخة مصغرة منه حتي كان بعض الأصدقاء يمزحون بوصف الصغير (بالقرين) للأب ... كان يصحبه معه في صلاته ... خاصة صلاة الجمعة .. وكانت لهما طقوسهما الخاصة.. كانا يغتسلان سويا ويتوضئان .. يرتديان الجلابية البيضاء والطاقية الشبيكة ويتعطران بالمسك ثم يتوجهان إلي المسجد قبل بدء تلاوة القرآن ... يشرعان في ملء القلل الفخارية ووضعها في صينية نظيفة بالقرب من باب المسجد ... ثم يجلسان في الصف الأول مع بدء قدوم المصلين ... وبعد أداء الصلاة كان الأب يضع في يد الصغير ما تيسر من النقود ويعاونه في دسها في صندوق الصدقات داعيا له ولولده ولوالده جد الطفل الذي علمه هذه العادة منذ الصغر كما يفعل الآن بالضبط مع وليده .. ثم يتوجهان إلي بقالة عم حسين المجاورة للمسجد لشراء ما طاب من الحلوي مكافئة للطفل علي التزامه بالهدوء و آداب المسجد أثناء الصلاة ... ثم يتجهان إلي الجبانة الواقعة علي أطراف البلدة لزيارة قبري الجد والجدة وقراءة الفاتحة علي روحيهما... وبعد ذلك يتجهان إلي عم موسي الحلاق لتهذيب ما تنافر من شعريهما فيبدآن بالصغير بإجلاسه علي كرسيه الخاص المناسب لسنه وحجمه .. ثم يليه الأب الذي قد يحلق ذقنه بالمرة ... وفي النهاية يعودان أدراجهما إلي البيت ليقص الصغير تفاصيل يومه علي أمه التي تستمع إليه كل مرة باهتمام أكثر كأنما تسمعه للمرة الأولي ... وحين يجيء وقت النوم كان يتكور في حضن أبيه الذي يقص عليه ما فاض به خياله من حكايات حتي يستسلم الطفل لسلطان النوم ويغرق في عالم الأحلام ... ليستيقظ ذات صباح فيجد كل ذلك يتبدد بين عشية وضحاها ... الأب والأم يتهامسان :
-
خلاص مفيش فايدة ؟... دا قرارك؟
-
لازم أسافر ... دي فرصة مش هاتتكرر ... شايفة الحال هنا عامل ازاي؟!
-
الولد متعلق بيك..
-
البركة فيكي.
وحزم الأب متاعه و سافر ... مرت أيام وليال طوال ... الزوجة في شوق والابن في سؤال دائم عن أبيه ... إلي أن جاء البشير ينبيء بقرب عودة الغائب ... تهللت الأسارير وخفقت الأفئدة وتأججت نيران الشوق التي لم تخمد لحظة.. لكن كعادتها ، لم تأت الريح بما تشتهي السفن ... حينما تهيأت الأنفس لاستقبال الأحبة بعد طول غياب .. وتسابقت الأنفاس مع دقات القلوب فكانتا أسرع من هرولة الأقدام ... لكن خبر الكارثة كان أسبق .. فتحول الحنين إلي أنين .. ودموع الشوق إلي دمع الحسرة والألم .. وكما تحولت الأمهات إلي ثكالي ... تحولت الزوجة إلي أرملة والصغير إلي يتيم ... وتحول الجسد النابض بالحياة إلي ذكري زوج مكافح وأب حنون ... بينما ذاب الجسد في ملح البحر أو هنئت به أنياب القروش الضارية أو ربما قبع مع حطام السفينة في قاع سحيق!!
لم تكن تعلم ماذا تجيب صغيرها ؟! ... بابا فين يا ماما ؟!... مسافر يا حبيبي ... طيب هايرجع امتي ؟! ... أسئلة تمزق فؤادها و تؤجج لوعتها كمن يسكب الزيت علي النار... فوجئت به ذات مساء يمسك قلمه ويخط كلمات لا يفهمها سواه فما كان يعرف الكتابة بعد لحداثة سنه لكنه كان يعرف جيدا ماذا يريد أن يكتب...سألته الأم
-
بتعمل ايه ؟
-
باكتب جواب لبابا.
-
كتبت ايه؟!
-
قلت له.. انت وحشتني قوي ... تعالي بأه أنا وماما مستنيينك.
ليلتها لم يسألها وكأنما قنع برسالته وقرر أن يكون السؤال مباشرة لأبيه.. نام نوما عميقا والورقة تحت وسادته حتي جاء الصباح التالي ... أخذ الرسالة وأسرع إلي أمه:
-
يللا يا ماما ... مش هانبعت الجواب؟!
تأملته لحظة وقد مادت الأرض من تحت قدميها ودارت الدنيا من حول رأسها ... لم تدر ماذا تقول ، فقط أخذت بيد الصغير بينما يده الأخري مطبقة علي الرسالة ولم تعلق إلا بكلمة واحدة ... حاضر... اصطحبته في جولة طويلة بلا وجهة أوهدف... ولا زال الطفل مطبقا علي رسالته ... فجأة وجدت نفسها لدي شاطيء اليم القريب علي مشارف البلدة ... التفتت للصغير قائلة:
-
الميه دي رايحة عند ابوك ... إديها الجواب عشان توصله.
ألقي الطفل الورقة في سعادة و راقبها وهي تطفو فوق الماء ثم تخطفتها الأمواج ليبتلعها اليم ... التفتت الأم في تهيؤ للرحيل ... فاستوقفها في تساؤل:
-
تفتكري ها توصله؟!
-
زمانه وصل له يا حبيبي.
تمت
كان ُيلح في السؤال ويكرره مرةً تلو الأخري دونما ملل أو يأس من الحصول علي جواب شاف، َتَقر به عينه ويهدأ له باله ، حتي باتت تتجنبه بل تتحاشي الحديث معه خشية سؤاله الملح :
هو بابا راح فين يا ماما ؟!
-
سافر يا حبيبي .
-
طيب هايرجع امتي ؟!
لم تجد أبدا إجابة فكانت تلوذ بالصمت وتصرف وجهها إلي الجهة الأخري مغالبة عبرة قفذت إلي عينيها رغما عنها ... أحيانا كانت تنهض فجأة تاركة صغيرها لحيرته وتساؤلاته لتتظاهر بالإنشغال في أعمال المنزل مغالبة دموعها.. وأحيانا كثيرة كانت تأخذه في حضنها وتضمه بشدة إلي صدرها عاصرة عينيها في لوعة كي تسمح لفلول عبراتها بالسقوط علي شعره الأسود الكثيف .. لتمتزج خفقات قلبها الملتاع بدقات قلبه المحملة بالشوق لوالده الذي افتقده و تاق إليه كثيرا .. فكما كان لأبيه الأبن الوحيد ... كان الأب له بمثابة الصديق الأوحد ، فقد كان يصحبه معه في كل خروجاته أيا كانت طبيعتها نزهة أو عمل ... كان يأنس به ويفضي إليه بالكثير من تجاربه وخبراته .. كان يعاونه في تبديل ملابسه حتي كان الصغير يرفض أن تعاونه أمه ويصر علي معونة أبيه الذي كان يتخير له ملابسه بعناية بل وأحيانا كان يقع اختياره علي ملابس مشابهة لملابسه ليبدوان في جولاتهما مثل رجل بالغ ونسخة مصغرة منه حتي كان بعض الأصدقاء يمزحون بوصف الصغير (بالقرين) للأب ... كان يصحبه معه في صلاته ... خاصة صلاة الجمعة .. وكانت لهما طقوسهما الخاصة.. كانا يغتسلان سويا ويتوضئان .. يرتديان الجلابية البيضاء والطاقية الشبيكة ويتعطران بالمسك ثم يتوجهان إلي المسجد قبل بدء تلاوة القرآن ... يشرعان في ملء القلل الفخارية ووضعها في صينية نظيفة بالقرب من باب المسجد ... ثم يجلسان في الصف الأول مع بدء قدوم المصلين ... وبعد أداء الصلاة كان الأب يضع في يد الصغير ما تيسر من النقود ويعاونه في دسها في صندوق الصدقات داعيا له ولولده ولوالده جد الطفل الذي علمه هذه العادة منذ الصغر كما يفعل الآن بالضبط مع وليده .. ثم يتوجهان إلي بقالة عم حسين المجاورة للمسجد لشراء ما طاب من الحلوي مكافئة للطفل علي التزامه بالهدوء و آداب المسجد أثناء الصلاة ... ثم يتجهان إلي الجبانة الواقعة علي أطراف البلدة لزيارة قبري الجد والجدة وقراءة الفاتحة علي روحيهما... وبعد ذلك يتجهان إلي عم موسي الحلاق لتهذيب ما تنافر من شعريهما فيبدآن بالصغير بإجلاسه علي كرسيه الخاص المناسب لسنه وحجمه .. ثم يليه الأب الذي قد يحلق ذقنه بالمرة ... وفي النهاية يعودان أدراجهما إلي البيت ليقص الصغير تفاصيل يومه علي أمه التي تستمع إليه كل مرة باهتمام أكثر كأنما تسمعه للمرة الأولي ... وحين يجيء وقت النوم كان يتكور في حضن أبيه الذي يقص عليه ما فاض به خياله من حكايات حتي يستسلم الطفل لسلطان النوم ويغرق في عالم الأحلام ... ليستيقظ ذات صباح فيجد كل ذلك يتبدد بين عشية وضحاها ... الأب والأم يتهامسان :
-
خلاص مفيش فايدة ؟... دا قرارك؟
-
لازم أسافر ... دي فرصة مش هاتتكرر ... شايفة الحال هنا عامل ازاي؟!
-
الولد متعلق بيك..
-
البركة فيكي.
وحزم الأب متاعه و سافر ... مرت أيام وليال طوال ... الزوجة في شوق والابن في سؤال دائم عن أبيه ... إلي أن جاء البشير ينبيء بقرب عودة الغائب ... تهللت الأسارير وخفقت الأفئدة وتأججت نيران الشوق التي لم تخمد لحظة.. لكن كعادتها ، لم تأت الريح بما تشتهي السفن ... حينما تهيأت الأنفس لاستقبال الأحبة بعد طول غياب .. وتسابقت الأنفاس مع دقات القلوب فكانتا أسرع من هرولة الأقدام ... لكن خبر الكارثة كان أسبق .. فتحول الحنين إلي أنين .. ودموع الشوق إلي دمع الحسرة والألم .. وكما تحولت الأمهات إلي ثكالي ... تحولت الزوجة إلي أرملة والصغير إلي يتيم ... وتحول الجسد النابض بالحياة إلي ذكري زوج مكافح وأب حنون ... بينما ذاب الجسد في ملح البحر أو هنئت به أنياب القروش الضارية أو ربما قبع مع حطام السفينة في قاع سحيق!!
لم تكن تعلم ماذا تجيب صغيرها ؟! ... بابا فين يا ماما ؟!... مسافر يا حبيبي ... طيب هايرجع امتي ؟! ... أسئلة تمزق فؤادها و تؤجج لوعتها كمن يسكب الزيت علي النار... فوجئت به ذات مساء يمسك قلمه ويخط كلمات لا يفهمها سواه فما كان يعرف الكتابة بعد لحداثة سنه لكنه كان يعرف جيدا ماذا يريد أن يكتب...سألته الأم
-
بتعمل ايه ؟
-
باكتب جواب لبابا.
-
كتبت ايه؟!
-
قلت له.. انت وحشتني قوي ... تعالي بأه أنا وماما مستنيينك.
ليلتها لم يسألها وكأنما قنع برسالته وقرر أن يكون السؤال مباشرة لأبيه.. نام نوما عميقا والورقة تحت وسادته حتي جاء الصباح التالي ... أخذ الرسالة وأسرع إلي أمه:
-
يللا يا ماما ... مش هانبعت الجواب؟!
تأملته لحظة وقد مادت الأرض من تحت قدميها ودارت الدنيا من حول رأسها ... لم تدر ماذا تقول ، فقط أخذت بيد الصغير بينما يده الأخري مطبقة علي الرسالة ولم تعلق إلا بكلمة واحدة ... حاضر... اصطحبته في جولة طويلة بلا وجهة أوهدف... ولا زال الطفل مطبقا علي رسالته ... فجأة وجدت نفسها لدي شاطيء اليم القريب علي مشارف البلدة ... التفتت للصغير قائلة:
-
الميه دي رايحة عند ابوك ... إديها الجواب عشان توصله.
ألقي الطفل الورقة في سعادة و راقبها وهي تطفو فوق الماء ثم تخطفتها الأمواج ليبتلعها اليم ... التفتت الأم في تهيؤ للرحيل ... فاستوقفها في تساؤل:
-
تفتكري ها توصله؟!
-
زمانه وصل له يا حبيبي.
تمت