غدٌ لا يجيء
- إلى أين نحن ذاهبون يا أبي ؟!
سألها الصغير أباه في قلق و ملل ... نظر إليه الأب في حيرة يبحث عن إجابة فحاول رسم ابتسامة واهنة على شفتيه و ربّت على كتف الصغير وضمه إليه في حنو ثم رفع بصره إلى الجهة المقابلة من الشاحنة حيث ترقد زوجته وسط نظيراتها من النسوة في حزن وصمت ... تبادلا نظرات حائرة زائغة ثم التفتا نحو الطريق الممتد أمام الشاحنة في تطلع للمجهول.
كانت الشاحنة تسير ببطء شديد و قد اكتظت بالأجساد و الأمتعة الزهيدة التي استطاعوا حملها معهم ... وكان صوت المحرك الصاخب يئن ويزمجر في جهاد عنيف ليدفع بالشاحنة علي الطريق الغير ممهد ... مما جعلها تهتز وترتطم بحجارة الطريق لتدفع الأجساد المحشورة في الصندوق الخلفي في تلاطم وتلاحم زاد من معاناتهم.
رفع الأب يده في حركة تلقائية ربما اعتاد عليها منذ الصبا كلما شعر بضيق أو ملل كي ينظر في ساعته ... لكنه سرعان ما أعاد يده في اقتضاب وهو لم يكد يلمح عقارب الساعة فلا معني الآن لزمان أو مكان ، وكأن الحياة توقفت عند لحظة بعينها .. لحظة غابت فيها الشمس خلف غيوم من المجهول بلا أمل في العودة ، فما عدت تفرق بين الليل والنهار ... هل هو نهار بلا شمس !.. أم ليل بلا قمر! .... ولا معنى لمكان والرمال الصفراء تمتد من كل جانب لا يشوبها إلا بعض الكتل الصخرية، وكثير من الأسلاك الشائكة علي جانبي الطريق. فما معني كلمة يوم أو شهر أو عام! ... فاليوم كالبارحة .. وغدا لا يأتي أبدا.. وإن جاء ، لن يأتي بجديد.
أخذ المحرك في الخفوت تدريجيا حتى توقفت الشاحنة ... دارت العيون تتأمل بعضها البعض ... وارتجفت الأوصال ... وتسارعت دقات القلوب ... فقد كانت إحدى نقاط التفتيش ... أسرع قائد الشاحنة بمغادرتها رافعا يديه خلف رأسه امتثالا لأمر أحد الجنود الذي أخذ يدفعه في ظهره بفوهة بندقيته ... بينما اندفعت مجموعة من الجنود إلي مؤخرة الشاحنة في دفع للأجساد المرتجفة للخروج من الصندوق الخلفي ومغادرة الشاحنة في قسوة لا مثيل لها ، ورغم ذلك اختنقت الصرخات في الحناجر واحتبست العبرات في المحاجر ... فقط ارتعدت الفرائص، وارتجفت الشفاه بالدعاء.
ترجل الجميع ووقفت النسوة مع الأطفال والغلمان ترقب الرجال و الشبان وهم يجردون من ملابسهم إلا السراويل تستر سوءاتهم ، ثم ينبطحون أرضا علي البطون العارية التي كانت تعانى الأمرين .. الجوع من الداخل ، و حر الرمال الملتهبة من الخارج ... ووجوههم تكاد تلمس الأرض ... والجنود تركلهم في قسوة و امتهان.
جاء دور الأب ... نزعوا عنه ملابسه ... طرحوه أرضا ... حاول نفض الرمال عن جسده فدفعه الجندي بقسوة ليجثو علي ركبتيه، ثم عاجله بلكمة عنيفة علي رأسه كي ينبطح علي وجهه أرضا كالباقين .. دارت رأسه من هول اللكمة وأظلمت الدنيا لحظة كاد فيها يغيب عن الوعي لولا أنه سمع تلك الصرخة، وكأنها انتشلته من بئر سحيق وأعادته ببصيص من الوعي ... صرخة ارتجف لها قلبه و انتبهت لها حواسه ... كانت صرخة ابنه وقد أفزعه ما أصاب أباه .. استدار بعين واهنة يبحث وسط الأجساد عن زوجته وولده .. لمح الصغير.. التقت عيناهما... وامتزجت العبرات في خوف و رهبة .. دفعه الجندي مرة أخرى ... هم بالانبطاح .. لكن بصره تشبث بالصغير، ودارت ذكريات أليمة في رأسه وكأن الأحداث تعيد نفسها ... صور محفورة منذ الصغر ... تذكر نفسه طفلا، في مثل عمر ولده تقريبا، وفي نقطة تفتيش مماثلة ... رأى أباه ... وكان مثله الأعلى وقدوته ومعلمه الأول ومانحه كل معاني الحياة ... تذكره في موقف ذل و هوان مماثل.. نفس النظرة ونفس العبرات. رغم مرور السنوات ... لم يتغير شيء إلا الوجوه. صورة سوداء تحولت إلي كابوس لا يغادر مخيلته ، ولحظة ذل دامت طوال العمر لم يمحها حتى استشهاد أبيه في إحدى المعارك ضد المستعمر.
رفض أن يتكرر المشهد ... قاوم محاولة الجندي لتنكيس رأسه .. أبى أن ينحني ... فرفع هامته عاليا ليراها الصغير... ردد في نفسه:
-
لا..لا.. لن انحنى .. لن أهزم ابنى ... لن اهزمه.
ضربه الجندي مرارا كي يحنى رأسه و ينبطح على وجهه مثل الباقين، لكنه أصر على رفع هامته وعينه معلقة بالصبي الذي أخذ يرقب المشهد في هلع ... يئس الجندي من إجباره على الرقود فخشي على هيبته أمام الجميع ... فدفع فوهة البندقية إلي رأس الأب المرفوعة ثم سحب صمام الأمان... و..أطلق.. الرصاص.
تمت[/LEFT ALIGN]
السيد فهيم