.....
وقف على ذلك السور الحديدي الذى علاه الصدأ فى ذلك المكان المجهور..و المظلم فى ذلك الوقت المتأخر من الليل..
استعذب ذلك الهدوء..المختلط بقليل من نسمات الهواء المداعبة لمياه النهر العميق تحته..نظر إلى المياه العميقة المظلمة..أغلق عينيه محاولا الإستمتاع بهذا الهدوء ولو لدقائق أخيرة فى عمره..قبل أن يحرك قدميه دون أدنى تردد..ويلقى بجسده من ذلك الإرتفاع الشاهق..لتستقبله مياه النهر فى عنف..وتبتلعه فى داخلها...
.....
" هل هو حى يا أبى...؟ "
تسللت الحروف إلى أذنيه..فتح عينيه فى بطئ..ليحدق فى المكان حوله..وتلك الطفلة الصغيرة التى نطقت بالكلمة..لاحظ ذلك الظلام الذى لم يتبدل..ومشهد البحر المحيط به كما هو..
" الحمد لله على سلامتك يابنى.."
نظر إلى صاحب الصوت..ليجد رجلا متوسط العمر.. أسمر الملامح..ينظر إليه وقد علت إبتسامة طيبة وجهه, قبل أن ينظر حوله ليرى تلك السيدة المتشحة بالسواد والأطفال متفاوتين الأعمار الذين تحمل وجههم نفس السمرة والملامح الطيبة ينظرون إليه..وقد بدأ عقله يستوعب المكان..فقد كان فى مركب صغير تسير وسط النيل..
" ما الذى حدث...؟ "
" كل خير يابنى..لقد رأيتك تقف فوق ذلك السور..ولدهشتى وجدتك تلقى بنفسك..فأسرعت لإلتقاطك وإنقاذك..لماذا فعلت ذلك يا بنى..أنت شاب صغير...لماذا تحاول الإنتحار..لماذا تزهق روحك التى وهبها الله لك.."
" أنا..أنا يائس..أعيش فى بيت لاتستطيع تفرقته عن الجحيم..صراع..حقد..كراهية..فى البيوت العادية تشعر بالأمان...لكن فى البيت الذى أعيش فيه...كفانى..! لا أريد أن أتذكر..لماذا أنقذتنى؟! يالحظى العاثر.. ماذا جاء بك إلى هنا ليلا فى هذا الوقت لتنقذنى..لماذا لم تدعنى أودع تلك الحياة اليائسة..؟! "
" إنه ليس حظك العاثر يابنى..هذا بيتى..أنا أعيش هنا فى هذا المركب فى النهر..ورؤيتى لك وأنت تنتحر كان رحمة من ربك لك..ماذا كنت ستقول له..؟ ستقول له أنك أصبت باليأس من البيت الذى تعيش فيه فإنتحرت..؟ لو كان الأمر كذلك لكنا جميعا من المنتحرين يابنى..و لكتبنا نهاية أعمارنا بأيدينا..رغم جمالها..ورغم كرم الله علينا بإعطائنا إياها.."
" لكن لما أعطانى الله تلك الحياة اليائسة..وأخرين ينعمون بالراحة والهدوء وسط عائلاتهم..ولما جعلك أنت تعيش فى مركب فى النهر وسط ذلك البرد القارص..وأخرين ينعمون فى بيوتهم مرفهين..؟!"
تبدل وجه الرجل للحظات..قبل أن تعاوده ابتسامته الطيبة وهو يجيب:
" البحر بجوارنا يابنى..نعيش فيه..لما لم نفكر فى الإنتحار مثلك...؟ لأننا نرضى يابنى..هناك دائما من أقل ومن أكثر..هناك يتيما ليس له عائلة من الأساس..ولو أعطيته عائلتك التى حاولت الإنتحار بسببها تلك..لحقق ذلك اقصى أمانيه..ونحن..نعيش هنا فى عرض النهر يابنى..فى ذلك المركب الصغير..هناك من لا يملكون مثل ذلك المركب..إنه الرضا يابنى..حاول أن تشعر بذلك الرضا عن كل ما تملكه لتعش سعيدا..عندها فقط..ستعرف لماذا أعطاك الله تلك الحياة..وستكون هذه هى حقا البداية.."
.....
على درجات المنزل..صعد مرة أخرى..حتى واجه ذلك الباب الذى تركه منذ ساعات..فتحه ليجد تلك الوجوه المتشابهة..قلقا عليه..نظر إليهم فى حب لم يعتده.. وهو يشعر أن حياته قد بدأت من جديد..بينما عصافير الصباح الصغيرة..من بين أعشاش القش الذهبية..تنشد بزقزقتها لحنا جميلا..معلنة بداية يوم جديد..فى حياته...
.................