صمت يقتله عويل مكتوم...وسكون تقطعه دمعة هادئة...
وصورة تلو الصورة تنحر قلبها نحرا...
في هذه الصورة يضحكان...وفي الأخرى يتعانقان...
و في ثالثة تكاد عيونهما تنطق من فرط السعادة..من شدة الحب...
"كيف لا يزال يحتفظ بتلك الصور حتى الآن..؟
ألم ينسَ قصته معها بعد..؟
لِمَ لم يدع الماضي يمضي بسلام..؟
ألا زال يحبها حتى بعدما خانته..؟!!
اذاً لِمَ تزوجني..؟!!"
كل هذه الاسئلة دارت بذهنها..وكل صورة تخلق آلاف التساؤلات..
و تجلب معها أحزان بلا حصر...ودموع لا تنتهي...
كانت تمرر كل الصور بسرعة هستيرية...بلا انتباه أو تدقيق..
لكن فجأة..توقفت وجذبت صورة منهم...وجحظت عيناها وهي تتأملها..
و كأنه شخوص الموت..
فالفستان الذي ترتديه زوجته السابقة....انه نفس الفستان الذي ترتديه الآن..!!
و تجذب صورة أخرى...فترى نفس الوشاح الذي أهداها ايه ملتفاً على عنقها..!!
وصورة ثالثة...تجد نفس زجاجة العطر الذي جعلها تشتريه خصيصا مؤكدا على اسمه..
و تذكرت كيف تعجبت حينها...فهو ليس من هواة العطور..
و صورة رابعة...وخامسة...وسادسة...
ظلت تقلب في الصور حتى اكتفت...حتى نضبت دموعها...وتسمر جسدها.. وشحب لونها..
فقد تعدى الأمر حدود البكاء بكثير...تخطى الدهشة بمراحل...
ولم يبقَ بقلبها الا الألم...الا الحزن...
كانت تحملق في الفراغ من هول الصدمة...
و تجول بعقلها أفكار مجنونة...وتصح ظنون كانت تكذبها...
ظلت هكذا نحو الساعة...تحملق في الفراغ...ولم يقطع هذا المشهد المأساوي...الا
صوت باب المنزل يُفتح...ليعلن وصول زوجها من العمل...
و في أقل من الثانية...جمعت أفكارها المتناثرة...و لملمت أجزاء قلبها المتبعثرة...
و بكل تخاذل..جرت قدميها نحو المرآة....لتزيل آثار الدموع...و تمحو بقايا العبوس..
كم أرادت حينها أن تشكر من اخترع مساحيق التجميل.. فبفضلها تستطيع أن تضع
قناعا يخفي الحقيقة خلفه... وتمنت لو أن هناك مساحيق تستطيع أن تزيل آثار الانكسار..
أو دواء يشفي توابع الصدمات...أو ربما صمغ يلصق أجزاء القلوب المحطمة بعضها ببعض...!!
لكن للأسف...كيمياء القلوب لا يمكن أن يصنع من علمها مساحيق تجميل...
فالقلب ليس أنفاً يُصغَّر..و لا خلايا تُحقن بالبوتوكس..!!
القلب هو عالم الكيمياء نفسه....هو طبيب التجميل ذاته...
الذي يستطيع أن يجعل الانسان إما جميلا جدا أو قبيحا جدا...مهما كان شكله...
كل هذا دار بعقلها طوال هذا اليوم...بعدما اكتشفت الحقيقة...محاولة أن تبدو بخير..
وتمتص كل ألمها..و كالعادة تمتص كل غضبه عليها...وسخطه من كل شئ تفعله..
كل حركة تقوم بها..كل كلمة تلفظ بها...و أي رأي تبديه...!!
لم تكن تعرف سبب كل هذا الغضب من قبل...
أما الآن فبلى....
فحين يقول"لا تتحدثي هكذا.." فهو يقصد.."لا تتحدثي مثلك..بل تحدثي مثلها.."
مثل زوجتي الخائنة...
و حين يعترض.."لا ترتدي هذا الفستان.." فهو يعرف أنها لم تكن لترتدي فستانا مثل هذا..
فهو ليس ذوقها...
الآن والآن فقط....وجدت الأسباب وراء كل تصرفاته...
انه يقارنها بها...
لا....انه يريد أن يجعل منها نسخة من امرأته السابقة..
كم شعرت بالألم حينها...!
كم شعرت بالظلم...!
لقد عانت معه كثيرا..تحملته كثيرا..ظناً منها أنه يحبها..
لكنه ما كان يحب فيها سوى بضع صفات تجعلها تشبه تلك التي يحبها..
ويعمل على جعل كل ما فيها يشبهها أيضا..!!
انهالت الأفكار على ذهنها بسرعة وكثرة كأمطار ديسمبر..
و أخذ كل شئ يتضح أمامها....كما لو كانت تحمض صور الماضي لترى كل شئ بوضوح..!
و حين رأت كم ظلمها...كم هانها....
كم استهتر بمشاعرها واستغل حبها ليرضى رغباته.. قررت دون رجعة..أنها وللمرة
الأولى...لن تمتص غضبها....
لن تمضغ ألمها..ولن تبتلعه...بل يجب أن تبصقه..
على ألمها الآن أن يظهر....كل آلام السنين التي قضتها معه..عليها أن تخرج الآن..
_"لا...ليس الآن...لنجعل الرحيل غدا..ليكون رحيلا غير عاديا...
فقصة مثل هذه لا يليق بها الا خاتمة مثلها...بلا مثيل..."
هكذا قالت في نفسها..واستقرت على هذا القرار...
سترحل غدا.....
وجاء غدا...
دخل الزوج عائداً من عمله..فوجد المنزل ساكنا على غير عادة...
لفت نظره شئ موضوع بمنتصف الصالة...
فأخذ يقترب منه...وكلما اقترب زادت دهشته....
انه انسان آلي...!!!!
ابتسم ابتسامة عريضة ساخرة لا تزال الدهشة سمتها الأولى...
و حين مدّ يده ليمسك به...وجده يتحرك نحوه فجأة...
حتى ارتد للخلف بعنف من أثر الفزع...!
لكنه سرعان ما ضحك من نفسه على رد فعله الطفولي..!
و قبل أن يحاول الامساك به مجددا..خرجت هي..ممسكة بجهاز تحكم عن بعد...
متمسكة بابتسامة ساخرة على شفتيها...
فتحدث اليها بتعجب وسخرية بالغة :
_ما هذا..؟! هل تستعيدين أيام الطفولة..؟!
ردت في كل اتزان قائلة :
_أتعرف ما الفرق بين الانسان الحقيقي والانسان الآلي..؟!
_هل تحاولين أن تستدرجيني الى نقاش عقيم من نقاشاتك..؟!
_يبدو أنك لا تعرف الاجابة...!
_أعرفها يا عزيزتي....لكني لا أعرف ما خطبك...
_حسنا..أخبرني الاجابة...وسأخبرك ما خطبي...
_الانسان الحقيقي من لحم ودم....
أما الانسان الآلي فهو.. لعبة...
ارتفع حاجباها...و نظرت بعيداً..و كأنها تقيم اجابته...
ثم ردت قائلة....
_ليس تماما...
_ماذا تعنين..؟
_سأخبرك....
الانسان الحقيقي من لحم ودم بالفعل...لكن ما يميزه ليس لحمه..ولا دمه..
تميزه ارادته...حريته...شخصيته...وقدراته...يميزه أن لديه ما يميزه...
وليس مجرد نسخة عن انسان آخر....
أما الانسان الآلي...فهو عبد....عبد لا يطالب بحريته...جاهل لا يتعلم الا ما وضع بعقله..
أمّي لا أمل في أن يكتسب المعرفة بنفسه....
انه جماد...جماد خلق لأجل الآخرين لا لأجل نفسه...
قطعة من فولاذ بلا شعور...بلا انتماء...بلا وطن...
يمكنك أن تجد منه آلاف النسخ...فكلهم متشابهين....لا شئ يميز أحدهم عن الآخر..كلهم
آلات صماء سوى عن الأوامر.....خرساء لا تصدر الا صوت احتكاك أجزائها ببعض...
الانسان الآلي هو عبد سيده...وسيده هو أي يد تمسك بالريموت كنترول.
أعلم أنك تتساءل عن مغزى كلماتي هذه....وعار عليك أن تتساءل...
فقد كنت سيد الموقف طوال حياتنا معا...
يجب أن تكون ملماً بما أتحدث عنه...
انعقد حاجباه في دهشة....و أسف...وكأنه يأبى أن يظهر الأسف وحده عاريا من أي شعور آخر..
فأسفه يجعله هو أيضا عاريا أمامها...لأنه يثبت صحة نظريتها..
نظرت اليه بازدراء...وتابعت :
_حسنا....سأتظاهر معك أنك لا تفهم ما أتحدث عنه...
ودعني أشرح لك ما تفهمه بالفعل..
الأمر بسيط جدا....أنت ..تمسك بالريموت كنترول...
وتريد أن تجعل مني انسان آلي...!
تريد أن تجعل مني نسخة ممن تملك قلبك..
وتقول أنك تحبني..؟!!
انك لا تحبني....انك تستطيع أن تحب كل وأي امرأة تستطيع أن تتقمص دور محبوبتك على أفضل وجه..
لقد جعلت الأمر يبدو و كأنه مسابقة.....والجائزة هي قلبك..
جائزة ليس لها وجود حتى...!
فهي بالفعل ملك لتلك التي تريد أن تجعلني مثلها..
لكن احزر ماذا...؟!....
أنا لست احدى المتسابقات....
لقد أشركتني في مسابقتك هذه دون علم مني...و أوهمتني بحب زائف...
تاجرت بمشاعري وقايضتني بحب كاذب...
أنا لست من تبحث عنها.....فلن أرتدي يوما ثوب امرأة أخرى...
ولن أكون يوما احدا غيري أنا...
أنا لي ارادة...لي حرية....ولي شخصية...أنا من لحم ودم..
ولست قطعة من فولاذ..لست لعبة....
لقد ظلمتني...وظلمت نفسك أيضا....
اني أُشفق عليك...فأنت كطفل صغير فقد أمه....ويبحث عن حنانها في لعبة...
و حين لا يجد ما يبحث عنه..يفككها...يكسرها..
انه يطلب شئ يفوق قدرات اللعبة..فاللعبة لم تُصنع لتعطي الحنان...
بل لتلهي العقل..
و الالهاء مهما طال لا يزيل الحاجة....الا ان أراد صاحبها ازالتها...
لن تجد يوما من يحبك...لأن قلبك ملكا لأخرى...وبارادتك..!
فلا تلمني على فشلك..وضعف ارادتك...
لا تدّعي أنه فشلي..لأنك لم تجد فيّ ما أردت...
لا تكن الطفل الذي كسر اللعبة...
و أنا لن أكون تلك اللعبة....
لن أكون ضحية لمرضك بها...وهوسك بطباعها...وتعلقك بكل ما ينتمي اليها.
قالت كل هذا وهو واقف مشدوه...ينظر اليها بكل أسف...بكل حزن...
ربما لأنه لم يكن يتوقع أن تكتشف الأمر بكل تفاصيله هكذا...
و ربما لأنه لم يتحمل وقع القاء الحقائق في وجهه هكذا...
أو ربما لأنه أدرك ما فقده للتو...
فقد انسانا من لحم ودم...وليس مجرد لعبة...!
فقد الحنان...وليس مصدر الإلهاء...!
وحين عاد من شروده مجددا لينظر اليها...ربما يستطيع أن يصحح الوضع...
لم تكن هناك..!
لم يكن هناك سوى انسان آلى..يشهد معه صمته...وربما يلهيه عن وحدته..!!
كانت قد رحلت...و تحررت..
و لأول مرة منذ زمن طويل تشعر أنها حرة..
بلا أسوار....
بلا قيود........
و بلا...ريموت كنترول.... !
